القراءة الأولية لمسودة باب الحقوق والحريات فى الدستور الجديد تظهر أن القيود الثلاثة المفروضة على حريات الأفراد والجماعات المشكلة لقوام هذه الأمة والتي نشأت فى خضم عملية بناء الدولة الحديثة عبر زمنيّ الاستعمار والتحرر الوطني مازالت حاضرة فى ذهن كتّاب دستور الثورة. نعني بهذه القيود أشكال ثلاثة رئيسية من الوصاية: الوصاية على الحق فى التنظيم والحركة المستقلة للجمهور العام وما يتطلبه ويقتضيه من حريات، الوصاية على ضمير الأفراد ومايستتبع ذلك من تقييد لحريات الاعتقاد والعبادة وأخيراً الوصاية على الجسد والسلوكيات العاطفية والجنسية، وخصوصاً جسد المرأة المُعتقل بشكل حصري داخل مجال الأسرة البرجوازية والمُنظَّم بقوانين تعتمد على تفسيرات متشددة للتراث الإسلامي. تكشف هذه المسودة والحال كذلك عن انفصال شبه تام مابين روح هذه الثورة وقيمها، والتي سعت إلى إعادة تأسيس للدولة الحديثة وجماعتها الوطنية على أسس مختلفة جذرياً عن سابقتها، وبين الطبقة السياسية الجديدة -وخصوصاً جناحها الإسلامي- والتي مازالت مخلصة للموروث من ركائز هذه الدولة. بعبارة أخرى، ينبع الالتباس فى موقف غالبية الفصائل الإسلامية، أو الإخوان على وجه التحديد، بخصوص الحريات الخاصة والعامة من إخلاصهم لمشروع الدولة الوطنية الحديثة وثوابته وليس العكس. ومن ثم فالنضال ضد ميل التيار الإسلامى للتضييق على الحريات فى الدستور الجديد يجب أن يبدأ بنقد ما استقر داخل مؤسسات الدولة المصرية الحديثة ووعى نخبها القانونية والسياسية من خطابات.
الدولة الحديثة وقيودها الثلاثة:
نشأت الدولة الحديثة منذ البداية متشككة في الحركة المنظمة لعموم المصريين رابطة إياها بميل فطري للشغب والتخريب. هذا التشكك في قدرة "العوام" على الحركة المنظمة لطالما كان حاضراً عبر عصور ماقبل الدولة الحديثة، فقد وسم علاقة الأرستقراطيات العسكرية التي تعاقبت على حكم المصريين منذ الفتح الإسلامي وما قبله والتي لم تر فى سكان هذا البلد- وبالتناغم مع حقائق هذا العصر- الأهلية اللازمة للعب أي دور محوري فى ممارسة شئون الحكم. كذلك شكّل هذا التشكك عصب النظرية الإسلامية السنية التقليدية في الشرعية والسيادة بشكل عام والتي اشتهرت بكراهة الخروج على الحاكم وإقرار الأمر الواقع- أي سلطة ما عُرف بأمراء التغلب- على أي محاولة لاستدعاء العوام إلى الشأن السياسى مقرنةً هذه المحاولات "بالفتنة". عاد هذا التشكك ليلعب أدواراً مختلفة في دعم مشروع التحديث الرأسمالي الذى قادته أرستقراطيات عسكرية ومدنية من نوع آخر ارتأت لنفسها مهمة تمدين المصريين وتحويلهم لمواطنين كاملي الأهلية منتظمين في علاقة مجردة مع الدولة على النمط المعروف في المجتمعات الرأسمالية الأوروبية. استتبعت مهمة التحديث تلك أنماطاً من الوصاية على الأشكال المختلفة من الإجتماع الأهلي لضمان استنبات علاقات الملكية والسوق الرأسمالي ومؤسسات الحكم الحديثة وتحصينها ضد أي شكل من أشكال التمرد المنظم، بل والتعالي الممنهج على تلك الهبّات باعتبارها تعبيرات مختلفة عن ميول غريزية لرفض التحديث والتقدم. وبالتالي لم تر تلك النخب أي إمكانية لمشاركة شعبية واسعة فى مشروع التحديث إذ يستحيل على تلك الجمهرة إدراك جوهر هذا التحديث ابتداءاً. ومن ثم فالمشاركة فى الشأن العام وفقاً لهذه الرؤية يجب أن تمر عبر عملية من التعليم والتمدين تعيد انتاج التمييز بين النخب الجديدة المتعلمة وعموم السكان. باختصار، ولدت النخب الجديدة متشربة بوعي يمكن وصفه "بالاستعماري" فى علاقتها بالجمهور المشكل للأمة المتخيلة.
وفى ارتباط وثيق بمشروع الدولة الحديثة ذاك تَشكَّل مشروع الإصلاح الإسلامي -على يد نخبة أزهرية معروفة ولاحقاً على يد نخبة قانونية جديدة يُعتبر الأستاذ السنهوري أبرز أعلامها بالطبع- ليقدم نظرية فى السيادة والشرعية تحل محل النظريات الموروثة من عصور ما قبل الدولة الوطنية الحديثة وليلعب أدوراً مساعدة في الضبط الإجتماعي وصناعة الهوية الوطنية الجديدة. أوكلت النظرية السنية التقليدية للحاكم الفرد، أو أمراء التغلب كما سبق الذكر، مهمة التشريع فى المسائل التى صمتت عنها الأحكام الشرعية الصريحة توظيفاً لمفهوم "التعذير" على أن يلتزم فى ذلك باجتهاد العلماء والقضاة. ولكن مع تعقُّد مهمات الحكم وتنوع تبعاتها وتشكل شبكة متداخلة من المصالح فى حاجة لتمثيل دخلت نظرية "السياسة الشرعية" تلك في أزمة حقيقية مع منتصف القرن التاسع عشر. تمثل إسهام هذا المشروع الإصلاحي فى فتح الطريق لتحل الأمة محل الحاكم الفرد فى التشريع أي تتحول لمصدر السلطة والتى تُمارس فى هذه المساحة التي تركتها الشريعة ومن ثم تأسس تناظر بين مهمة التشريع ومهمة الإجتهاد الفقهية. تمارس الأمة هذه السلطة عبر مجموعة من الترتيبات المؤسسية الديمقراطية كالفصل بين السلطات وتوازنها وما يرتبط بها من حقوق مدنية وسياسية كحق الانتخاب والمساواة أمام القانون وتأسيس الأحزاب إلى جانب الحق المقيد فى التنظيم. ويتم تسكين الأقباط داخل هذا التصور عبر توظيف متطور لفكرة "الذمة" يتحول بمقتضاه الأقباط لطائفة أولى بالرعاية أو كطائفة في علاقة تحالف وثيق واستراتيجى مع الأغلبية المسلمة على أرضية العداء للاستعمار الغربي.
يدشن هذا التصور مهمة أيديولوجية للدولة الحديثة تتمثل فى نشر وحماية هذه الطبعة الإصلاحية من الإسلام وإلا انهارت نظرية الشرعية التي تتأسس عليها الدولة نفسها سواء لصالح نظريات إسلامية مغرقة فى تطرفها تنفى وجود هذه الأمة المصرية الجديدة نفسها أو لصالح تصورات مغرقة فى علمانيتها لا تعترف بهذا المفهوم المحافظ للوطنية. وفى هذا السياق تحول الأزهر تدريجياً منذ أول قانون منظم لأعماله عام 1910، و مروراً بتعديلات 1927، لأحد مؤسسات الدولة المنوط بها تعريف هذه الطبعة من الإسلام وصونها وكذلك فرض تصوراً واحداً مهيمناً داخل حقل الممارسات الدينية. وفي سياق مماثل، نشأت الكنيسة القبطية كمؤسسة عامة منوط بها تعريف حدود الإيمان المسيحي وأمور الأحوال الشخصية فى ضوء التصور الطائفي الذى حكم علاقة الدولة بالأقباط. وفى هذا السياق أيضاً وُلدت ممارسات الرقابة على الضمير وحريات الاعتقاد وأشكال التعبير والإبداع المختلفة بوصفها ضمانة لوحدة الأمة واستقرارها.
وأخيراً، حاول هذا المشروع التحديثي مد ولايته على الأجساد المشكلة لقوام هذه الأمة وضبطها. اقتضى ذلك فى الممارسة العملية التدخل لضبط جسد المرأة وسلوكها فى المجال العام- خصوصاً تلك المنتمية للطبقات الأدنى- ومحاولة تطويعها للعب أدوار محددة سلفاً داخل مشروع التحديث ذاك. فالانتماء لـ"جسد" هذه الأمة والتمتع بما يتيحه هذا الانتماء من حقوق لم يكن ليتم بشكل تلقائي ولكنه يقتضي عملية تمدين كما سبق الذكر. ولمّا كان مفهوم الأمة نفسه معرفاً فى علاقة وثيقة مع الإسلام، فكانت صفة المدنية تلك تقتضى التشرب بفهم معين للإسلام قدمه مشروع الإصلاح الإسلامى يلهم السلوك اليومي وترتكز عليه الدولة فى ممارسة مهماتها. أي أن صناعة الفرد بالمعنى الحديث للكلمة –محور الممارسات الديمقراطية نفسها- اقتضت صناعة طبعة من الإسلام تلائم هذا الفهم للتحضر. فتم توظيف التصورات الأرثوذكسية مثلاً المناهضة لممارسات التصوف والبدع كالموالد فى سياق حرب الدولة الحديثة مع الخرافة أو انشغالها بمسائل الصحة العامة وجرى الاعتماد على ذات الفهم الأرثوذكسي لمواجهة كثير من الممارسات العرفية كالثأر أو الممارسات القَبَلية الحاكمة للمواريث في مناطق مختلفة كالصعيد مثلاً والتي تخالف الفهم الثابت للشريعة فى هذا الصدد وذلك بهدف دعم حكم القانون وسلطة الدولة المركزية. هذا بخلاف الدور الذى أوكل للإسلام، والدين بشكل عام، فى دعم مفهوم محافظ للأخلاق والآداب العامة استخدم فى سياق عملية تمدين السكان.
يتجلى هذا النزوع المحافظ بخصوص الجسد والسلوك العام فى كتابات النخب المعنية بمسألة "تحرير المرأة"، كقاسم أمين مثلاً، والتى عكست تململاً من التفسيرات المتشددة للإسلام أو الممارسات العرفية فيما بتعلق بوضعية المرأة ولكنها كذلك عكست تأففاً من السلوك المنقلت لنساء الطبقات الأدنى فى شوارع القاهرة والذى يستوجب تدخلاً لتنظيمه فى إطار مشروع الإسلام الإصلاحي. ومن هنا ظهرت الأسرة "كخلية" للمجتمع المنشود تنتظم على نمط الأسرة البرجوازية وتستفيد بدورها من الإسلام المُحدَّث الذي سبق وشرعن للدولة الحديثة نفسها. هنا انتزعت المرأة بعضاً من الحريات والحقوق، ولكن نطاق هذه الحريات ظل مرتهناً بتفسير المؤسسة الدينية الرسمية المحافظة. ثم امتدت الوصاية على أشكال السلوك الجنسي المختلفة خصوصاً فى مجال الحياة الخاصة للعوام والتي تهدد تماسك وعفة هذه الأسرة الجديدة.
عن "النظام العام":
ما نريد التشديد عليه أن نظرية الشرعية الجديدة، بنت مشروع الإصلاح الإسلامي، قد وُلدت فى ارتباط وثيق بتصور محافظ عن الأخلاق العامة وتشكك أصيل فى قدرة المصريين على الفعل الجماعي المنظم، وأن كلٍ من هذه العناصر الثلاثة يعتمد فى وجوده على الآخر. فى هذا السياق، قدَّم مفهوم "النظام العام" المستعار من الأدبيات القانونية الفرنسية فى ذاك الوقت التعبير القانوني عن هذه العلاقة الدقيقة بين تلك العناصر الثلاثة. فبخلاف عدد من الأدورا التى لعبها هذا المفهوم فى صياغة التصور القانوني عن الجماعة الوطنية الجديدة، أصبح كذلك من المنوط به تحديد ما يشبه قائمة بالأفعال وأوجه السلوك المخلة بتماسك عناصر هذه العلاقة الدقيقة، وهي القائمة التى امتدت لتشمل طيف واسع جداً من الممارسات يبدأ بتشكيل جماعات متطرفة بالمخالفة للقانون مروراً بالتبشير يديانات غير سماوية أو معتقدات فاسدة ولا ينتهي بأشكال من السلوك الجنسي المخل بالآداب العامة.
عبّر هذا الفهم للنظام العام عن نفسه في عدد من النصوص الدستورية والتشريعية بدايةً بإعلان حالة الطوارئ مع فرض الأحكام العرفية خلال فترة الحرب العالمية الأولى وما تلاها إلى جانب أشكال مختلفة من تجريم الإجتماعات بعدد من نصوص قانون العقوبات وكذلك تجريم حزمة من أشكال الاحتجاج الجماعي وعلى رأسها الحق فى الإضراب. إقرار الحق فى التنظيم فى مرحلة لاحقة مع كتابة أول دستور مصري ظل مرتهناً بمجموعة من الشروط تضمن "تحضُّر" المحتجين أنفسهم، أي صورة من الاحتجاج منزوعة المخالب. على سبيل المثال، رهنت المواد 15 و20 من دستور 23- أيقونة الفقهاء الدستوريين المصريين- حريات إصدار الصحف والإجتماع بما أطلقت عليه "ضرورات الحفاظ على النظام الإجتماعي". قدمت هذه المواد الحجة اللازمة لقمع الحركة النقابية الوليدة وحلّ الحزب الشيوعي المصري فى عام 1924. كذلك شهد دستور 23 نفسه تقييداً لحرية ممارسة الشعائر الدينية "باعتبارات النظام العام والعادات المرعية فى الديار المصرية" (مادة 13). ثم شهدت السنوات التالية أولى المواجهات مع كافة المعتقدات التى تم اعتبارها من قبل الأزهر أو الكنيسة خارجة علن الفهم العام المستقر للإسلام أو المسيحية كالبهائية- والتى بدأت معاناتها مع النظام القانوني المصري منذ منتصف العشرينيات تقريباً- أو جماعة شهود يهوه المسيحية مثلاً والتى لم تحظ قط باعتراف الكنيسة القبطية. كذلك ظهرت القوانين المتعاقبة التي أسست للرقابة على أشكال الإبداع المختلفة لتقر جميعها بحظر ما تراه هى إجتراءاً على الرموز أو المعتقدات الدينية، فظهرت مبكراً ممارسات الرقابة على المبدعين أو المفكرين بدءاً من لائحة الرقابة على "التياترات"، أي المسارح، فى عام 1911 ومروراً بحزمة من القوانين التي مازالت مقيدة لحرية الإبداع حتى اليوم. كذلك عرف قانون العقوبات تجريماً لما سمى "بالفجور" و "التحريض على الفسق" فى سياق الحرب على الدعارة، والتي قادتها وجوه معروفة من نساء الطبقات الأرستقراطية بالتحالف مع بعض رجال الدين للحفاظ على نظام العائلة بل والصحة العامة للمواطنين. هذا بخلاف التوسع فى تطبيق هذه المواد لمواجهة أشكال مختلفة من العلاقات والسلوك كالمثلية الجنسية أو العلاقات العاطفية التي لا تنتظم فى إطار الأسرة النووية.
وهكذا تبدو الثنائيات التى يجري تداولها فى الجدل العام بشأن الدستور باعتبارها من قبيل البديهيات غير مؤسسة على سند تاريخي يعتد به. أحد أشهر تلك الثنائيات تتمثل فيما تلح عليه القوى اللييرالية وبعض القوى اليسارية من تمييز بين الدولة الحديثة العلمانية والمشروع الإسلامي الذى يشكل نكوصاً عليها - أو المقابلة ما بين إسلام الأزهر المعتدل أو إسلام الدولة التحديثية وإسلام الحركات الإسلامية السياسية- وهو تمييز لا يستقيم أخذاً فى الاعتبار أن الدولة الحديثة كانت هي من قامت برعاية طبعة محافظة من الفكر الإسلامي معادية لحرية العقيدة وهذه الطبعة قدمت بدورها الجذر الأيديولوجي لفكر الإسلام السياسي فى مرحلة لاحقة. كذلك تتجاهل الثنائية التى يروج لها قسم آخر من مثقفى اليسار ما بين الحريات الشخصية بوصفها شأناً برجوازياً خالصاً وبين الحريات العامة كحرية التنظيم بوصفها مطلباً شعبياً حقيقة أن هذه "البرجوازية" نفسها كانت من ضمن القوى التي قادت حملة تقييد الحريات الشخصية في سياق إخضاع الطبقات الأدنى لسطوة الدولة الحديثة وتصورها عن الأخلاق العامة.
صفقة يوليو:
استمرت أنماط الوصاية الثلاثة تلك حاضرة على الصعيدين الدستوري والتشريعي حتى ثورة يوليو والتى زادت عليها مزيداً من القيود الاستثنائية في مقابل رشوتها الإجتماعية الموسعة، وهي الرشوة التي شملت بالإضافة للحقوق الإقتصادية والإجتماعية مزيداً من الحقوق الشخصية للمرأة من داخل نفس الإطار العام لمشروع الإصلاح الإسلامي. فأبقت الثورة على القيود على الحق فى التنظيم بل وزادت عليها عدداً من المحاذير على الحريات النقابية. وهي المحاذير التى أفضت عملياً إلى مصادرة استقلال النقابات العمالية وحظر تعدديتها مع تأسيس الإتحاد العام لعمال مصر عام 1957. كذلك أبقى نظام يوليو على ما هو متعارف عليه من قيود على حرية الاعتقاد بل ووظف الهواجس المتعلقة بالخطر الصيهوني والمواجهة مع الاستعمار لفرض مزيد من القيود كما هو الحال مع حل المحافل البهائية 1960 تحت دعوى وجود علاقة ما بين الطائفة البهائية التي دفن مؤسسها فى مدينة عكا والدولة العبرية! وأبقى نظام يوليو على أسس العلاقة الطائفية مع الكنيسة، بل وأفضى التضييق على كافة أشكال التنظيم- والتي شكلت حاضنة معقولة للاندماج الوطني- إلى تضخم دور الكنيسة فى حياة الأقباط وتحولها لمؤسسة إجتماعية شاملة لكافة أوجه الحياة مع بداية السبعينيات. ثم كانت المحصلة الطبييعية لهذا الميل هو النص على الشريعة الإسلامية كمصدر رئيسى للتشريع في سياق مزايدة النظام على الحركات الإسلامية.
إلا أن الثورة أسست كذلك للخروج على نظرية الشرعية الدستورية السابق الإشارة إليها عن طريق ماهو معروف من إجراءات دستورية وتشريعية كادت أن تصادر المجال السياسي لصالح دولة بوليسية موازية كالإعلان شبه الدائم لحالة الطوارئ وإلغاء الأحزاب السياسية والتوسع في دور أجهزة الأمن السياسى والمؤسسات القضائية الاستثنائية وتقليص صلاحيات المؤسسات التشريعية. هذه الإجراءات على وجه التحديد دون غيرها هي التي أثارت حفيظة النخبة القضائية والقانونية الأمينة على ميراث الدولة التحديثية. أي أن نظام يوليو قد خرج على إجماع النخبة التحديثية فيما يتعلق بمسألة الشرعية والحريات السياسية والمدنية ولكنه لم يمس الإجماع الخاص بالقيود الثلاثة السابق ذكرها.
نجح النضال الحقوقى والسياسى على مدى العقدين الماضيين من خلال تفاعله مع النخبة القضائية فى انتزاع بعض المكاسب المتعلقة بالحقوق السياسية والمدنية على النحو الذي يستعيد قدراً من حيوية المجتمع التي صادرتها ثورة يوليو. إلا أن هذا النضال نفسه قد اصطدم بأسس إجماع هذه النخبة القضائية أي تلك الشروط الثلاثة. فشهد العقد الماضي مثلاً إعادة التأكيد من قبل مجلس الدولة على القيود الورادة على حرية الاعتقاد في أكثر من موضع خصوصاً فيما يتعلق بحريات أتباع الديانات غير السماوية أو بحرية التحول الديني. كذلك شهدت محاولات رفع وصاية الدولة التحديثية عن الجسد الأنثوي مقاومة عنيفة من داخل أروقة الدولة ومؤسساتها القضائية. على سبيل المثال صوّت مجلس الدولة نفسه عام 2010 بالإجماع تقريباً على رفض تعيين المرأة قاضية بين صفوفه وأبدت تلك النخب تحفظاً وتململاً فى مواجهة كافة الإصلاحات التشريعية التي تضمن قدراً من الحرية للمرأة فيما يتعلق بجسدها أو حركتها داخل المجال الخاص كما هو الحال مع تعديلات قوانين الأحوال الشخصية كقانون الخلع عام 2002 أو قانون الطفل عام 2008. وأخيراً كان القيد على الحق فى التنظيم أكثر تلك القيود قابلية للمنازعة تحت وطأة النضالات المتصاعدة لقطاعات واسعة من المصريين وفى القلب منهم الطبقة العاملة الحضرية. ولكن ظل الاعتراف من قبل المشرع والقضاء خجولاً ومقتصراً على الحق في استقلالية العمل النقابي مع الاستمرار في أشكال مختلفة من تجريم الإضراب.
دستور الثورة؟
ومع سعى التيار الإسلامي لوراثة هذه الدولة الحديثة، والذي يشكل هذا التيار نفسه أحد إفرازاتها وتعبيراتها كما ألمحنا، كان من الطبيعي أن يعيد انتاج قيودها الثلاثة مضافاً إليها قيوداً تتعلق باعتبارات ضمان استمرار سيطرته السياسية والانتخابية. في هذا السياق، ظهر باب الحقوق والحريات العامة معبراً عن هذه المعادلة الجديدة.
فعلى صعيد الحق في التنظيم، أقرت المادة 33 من المسودة بالحق في الإضراب وكفلت المادتين 18 و19 للمواطنين حق تكوين الجمعيات والأحزاب والنقابات بمجرد الإخطار، ولكنها رهنت ممارسة هذا الحق بما أسمته "احترام السيادة الوطنية"! الإشارة لما يسمى "باحترام السيادة الوطنية" تمثل بدعة على التراث الدستوري المصري ولم يرد ذكر أي شيء مشابه في الدساتير السابقة. من البديهي أن تحترم هذه المنظمات السيادة الوطنية ولكن من يحدد مقتضيات هذا الاحترام وطبيعة الأفعال التي تشكل إخلالاً به؟ ألا يمكن حل مجالس إدارة هذه المنظمات النقابية مثلاً إذا ما قادت حملة دولية ضد ممارسات الحكومة المصرية وإخلالها بالمعايير الدولية للعمل المحددة بمواثيق منظمة العمل الدولية؟ ألم يسوق نظام مبارك نفسه هذه الحجة ضد عدد من منظمات المجتمع المدني النشطة في حقل الدفاع عن الحقوق الإقتصادية والإجتماعية وانتهى الأمر لإغلاق دار الخدمات النقابية و العمالية عام 2007 عقب مشاركتها في إحدى جلسات استماع منظمة العمل الدولية بجنيف؟ (هذا بخلاف الحجة الجاهزة التى استخدمتها كافة الأنظمة المتعاقبة على حكم هذا البلد فى مطاردة منظمات المجتمع المدني وهي "تلقى تمويلاً أجنبياً"). ألا تفتح عبارة "السيادة الوطنية" تلك الباب لمطاردة هذه الهيئات فى المحاكم خصوصاً أن المادة تمنح القضاء حق حلّ مجالس إدارة هذه المنظمات بل وحلّ تلك المنظمات نفسها؟
وتبعاً للتقاليد الدستورية والتشريعية المصرية، امتد التقييد إلى أوجه النشاط المرتبطة بالحق فى التنظيم والإجتماع كحرية تداول المعلومات أو تأسيس الصحف. فتتيح المادة 20 حرية الحصول على المعلومات والبيانات والإحصاءات والوثائق أياً كان مصدرها ومكانها، وتلزم الدولة "بتمكين مواطنيها من التمتع بهذا الحق دون معوقات وبما لا يتعارض مع الأمن القومى للبلاد أو ينتهك حرمة الحياة الخاصة". مرة أخرى من يحدد معنى "الأمن القومي" هنا؟ كم من مواقع الإنترنت قد تُحجب ابتداءاً تحت نفس الدعوى؟ بل إن قطع خدمة الانترنت كما حدث في الأيام الأولى للثورة قد يصبح إجراءاً مُحصَّن دستورياً. مرة أخرى قانون تنظيم الإتصالات هو المعنى بتحديد هذه المعلومات التي ينبغي حجبها وكيفية هذا الحجب على سبيل الحصر وليس باستخدام صياغات فضفاضة. وكذلك أبقت المادة العاشرة المنظمة لحرية الصحافة على عقوبات كإغلاق الصحف وسحب رخصتها القانونية على الرغم من إلغاء نظام مبارك نفسه لهذه العقوبات في عام 2006. فقد نصت المادة 10 من المسودة على أن "حرية الصحافة والطباعة والنشر وسائر وسائل الإعلام مكفولة والرقابة على ما تنشره محظورة، ولا يكون إنذارها ولا وقفها ولا إلغاؤها إلا بحكم قضائي، ويجوز الاستثناء في حالة إعلان الحرب أن تفرض عليها رقابة محددة". اشتراط الحكم القضائي هنا لا يغير من الأمر شيء إذ أن العقوبة يجب أن تقتصر على الصحفي أو المسؤول التحريري أو الإداري دون إغلاق الصحيفة. هذا بخلاف المماطلة غير المفهومة أيضاً فى النص بشكل صريح على حظر عقوبة الحبس في جرائم النشر، وهو الحظر الذي ورد فى المادة 12 من أحد مسودات باب الحريات العامة واختفى بشكل غامض فى المسودة الأخيرة!
وعلى صعيد حرية الضمير والاعتقاد، أعادت المادة الثامنة التأكيد على القيود الموروثة عبر القرن الماضي. فجاءت المادة الثامنة لتحيي تقليداً بائساً كان قد اختفى من دستور 71 وهو تقييد حرية ممارسة الشعائر الدينية "باعتبارات النظام العام"، بل ولتذهب خطوة إضافية وتقصر حرية إقامة دور العبادة على أتباع الديانات السماوية فقط فى صياغة تفرّغ حرية الاعتقاد من مضمونها بل وتطلق يد الأجهزة الأمنية فى مطاردة الناس والتفتيش في حياتهم الخاصة بحجة التأكد من عدم تحويل البيوت مثلاً لدور عبادة لأديان غير سماوية كما حدث أكثر من مرة مع أتباع البهائية أو الأحمدية أو الطائفة الشيعية.
وأخيراً أعادت المادة 36 تأسيس الموقف التقليدي من المرأة والمجال الخاص بالمجمل إذ ألزمت الدولة "باتخاذ كافة التدابير لترسيخ مبدأ مساواة المرأة مع الرجل فى مجالات الحياة السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية وسائر المجالات الأخرى بما لا يخل بأحكام الشريعة الإسلامية. وتضمن الدولة "التوفيق بين واجباتها- أي المرأة- نحو الأسرة وعملها في المجتمع". هذه المادة منقولة حرفياً من دستور 71- وزادت عليها أحكام الشريعة الإسلامية- وتتضمن نفس أوجه القصور والتناقض، إذ ما الداعي للنص على أحكام الشريعة مرة أخرى هنا طالما أن المادة الثانية موجودة؟ والأهم، ماهو مبرر افتراض التعارض بين حقوق المرأة وواجباتها نحو الأسرة؟ كم تشريع قد يُجهض ابتداءاً بسبب هذه المادة الغريبة؟ وكم تشريع انتزع للمرأة بعضاً من حقوقها سيصبح عُرضة للطعن بعدم الدستورية؟
هكذا يولد "دستور الثورة" فى عزلة شبه كاملة عن قيم هذه الثورة وروحها. وهذا الانفصال بين المجال السياسي الجديد وبين ما يموج به هذا البلد من نضالات تستهدف أشكال الوصاية الثلاثة تلك على وجه التحديد – بغض النظر عن هوية رعاتها السياسيين- لا يمكن أن يضمن الحد الأدنى من الاحترام لهذا الدستور والذى سيبقى منتجاً غريباً مفروض على الناس حتى ولو تمت تمريره وفقاً "لإرادة شعبية".